الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا} أي ناصرًا ومعينًا {فَاطِرَ السموات والأرض} أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} فهو الغني المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} نفسه لربه عز شأنه، والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم فكنت، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين» فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلى الله عليه وسلم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] أي وقيل لي: لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدًا بشيء من الأشياء.{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء {وَهُوَ الحكيم} أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة {الخبير} [الأنعام: 18] الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق {قُلْ أي شيء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] بإظهار المعجزات، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [الأنعام: 20] وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بإثبات وجود غيره تعالى أو كذب بآياته فأظهر صفات نفسه {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 21] لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} بإثبات الغير {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعم: 22] أنهم شركاء ولهم وجود {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار {إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] لامتناع وجود شيء نشركه {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها {وَضَلَّ} أي ضاع {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24] فلم يجدوه {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} من حيث أنت {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} حسبما اقتضاه استعدادهم {أَن يَفْقَهُوهُ} وهي ظلمات النفس الأمارة {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ} وهو وقر الضلالة {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ} [الأنعام: 25] لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} وهي نار الحرمان {فَقَالُواْ ياليتنا ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا} من تجليات صفاته {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 72] أي الموحدين {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} لرسوخ ذلك فيهم {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} [الأنعام: 28] في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكة فيهم {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} [الأنعام: 30] الآية قال بعض أهل التأويل: هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق، والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول: لا يكون إلا كرهًا والثاني: يكون طوعًا ورغبة، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شيء} [الأنعام: 52] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها.ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم.ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية، ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت، ومن وقف مع الصفات وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران.وليس هذا هو الوقوف عل الرب لأن فيه حجاب الأنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف.والمشرك موقوف أولًا على الرب فيحجب بالرد والطرد {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 77] ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن {قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} [الزمر: 72] ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدًا فيكون وقفه على النار متأخرًا عن وقفه على الرب تعالى معلولًا له كما قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار.وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده.والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلًا بل يحاسب ويدخل الجنة.وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى.فتأمل فيه {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة بَغْتَةً} وهي القيامة الصغرى أعني الموت.حكي عن بعض الكبار أنه قيل له: إن فلانًا مات فجأة فقال: لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات {قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] تصوير لحالهم {وَمَا الحياة الدنيا} أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول {إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء {وللدار الآخرة} أي عالم الروحانيات أي عالم الروحانيات {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32] وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} لمقتضى البشرية {الذى يَقُولُونَ} ما يقولون {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} في الحقيقة {ولكن الظالمين بآيات الله} التي تجلى بها {يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] فهو سبحانه ينتقم منهم {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أتاهم نَصْرُنَا} فتأس بهم وانتظر الغاية {وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله} [الأنعام: 34] التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب.والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.
|